فن

لبنان في مرآة الأرشيف – ?Do You Love Me

«Do You Love Me?»: فيلم بلا أبطال ولا حكاية مكتملة، يسأل بمرارة: هل نحب وطنًا لم يمنحنا استقرارًا، وذاكرة موجوعة، ومدينة تُقصَف بعادية كطلوع شمس النهار؟

future غلاف فيلم: «?Do You Love Me»

في ليلة هادئة من ليالي مهرجان القاهرة السينمائي، وفي قاعة مسرح الهناجر، وفي ظل ازدحام القاعة بجمهور السينما، عُرض الفيلم اللبناني «Do You Love Me» ضمن مسابقة النقاد.

بدا من اللحظات الأولى أنّنا أمام تجربة لا تدّعي البطولة ولا تعتمد على نجم يعتلي الشاشة؛ بل أمام محاولة جادة وصادقة لإعادة تركيب وطن بأكمله عبر صور متكسّرة، وذكريات مبعثرة، وأصوات تستيقظ من تحت ركام الزمن.

حضور المخرجة اللبنانية لانا ضاهر ألقى بظلال إضافية على النقاش، إذ بدا واضحًا منذ بداية اللقاء أن الفيلم ليس مجرّد عمل أرشيفي، بل محاولة شخصية وعاطفية لتجاوز مأزق مركّب: مأزق شعب يفتش عن تاريخه، ومخرجة تبحث عن معنى لزمنها الشخصي في بلد لا يملك ذاكرة موحدة.

مدخل إلى الألم: أفلام المعاناة؟

المنطقة العربية مثقلة بجراح لا تنتهي: مأساة فلسطين، شتات السوريين، نزيف السودان، وجرح لبنان المفتوح منذ عقود. ولكن كثرة الحديث عن الألم لا تعني بالضرورة إنتاج فن جيد. بل إنّ الواقع يشير إلى موجة من الأفلام التي تستثمر/تستغل المعاناة بسطحية، أو تستدرّ التعاطف من لجان المهرجانات دون عمق أو ابتكار. وفي المقابل، تظهر أعمال قليلة تستحق الوقوف عندها، لأنها تعالج الألم بعين فنية ونفس إنسانية شديدة الوعي.

فيلم «Do You Love Me» ينتمي بوضوح إلى الفئة الثانية. هنا لا نرى الميلودراما التي تلجأ للبكاء المجاني، ولا الصراخ الخطابي، ولا استغلال المآسي من أجل الجوائز. نرى بدلًا من ذلك منهجًا سينمائيًا ينطلق من مفهوم صعب وصادق: كيف يمكن لبلد بلا ذاكرة مشتركة أن يروي تاريخه؟ وكيف يمكن لفيلم أن يتحول إلى أرشيف بديل، لا يفرض سردية أحادية، بل يترك المشاهد يغوص في تشظياته الخاصة؟

الأرشيف كبديل: ولادة الفيلم

تروي المخرجة أنها لجأت إلى الأرشيف لأن لبنان لا يمتلك تاريخًا موحدًا يُجمع عليه شعبه. التاريخ هنا ليس صراع روايات فقط، بل صراع وجودي على صورة الماضي. ماذا نفعل حين يصبح الماضي نفسه موضوع خلاف؟ وكيف نفهم حاضرًا لم يُكتب ماضيه بعد؟

هذا السؤال المؤرق يقود الفيلم إلى اختيار بنية سينمائية غير تقليدية، تقوم على تجميع مقاطع ولقطات من 106 فيلم روائي، إلى جانب صور فوتوغرافية، فيديوهات منزلية، لقطات تلفزيونية، وأغانٍ شعبية. كل ذلك ليس من أجل إعادة سرد الأحداث بطريقة خطية، بل لتشكيل لوحة فسيفسائية تعيد خلق لبنان عبر شظاياه، لا عبر رسمه في صورة مكتملة.

إنّ قيمة الفيلم تكمن في اعترافه الضمني بأن لبنان ـ مثل صور الفيلم ـ لا يمكن الإمساك به كاملًا، وأن محاولة بناء ذاكرة بصرية مشتركة قد تكون أصدق من محاولة فرض سردية سياسية واحدة.

البنية السردية للفيلم

يمتد الفيلم عبر سلسلة من المشاهد المتتابعة بلا شخصيات رئيسية ولا خط درامي واضح. قد يبدو الأمر في البداية أقرب إلى العشوائية، لكن مع مرور الوقت يكشف البناء عن مقصديته الدقيقة. فالمشاهد تتقاطع وفق ثلاثة أنماط رئيسية:

تقاطع المكان؛ تتغير الشخصيات وتبقى بيروت. الشوارع، المباني، السيارات القديمة، الأنهار، المقاهي، كلها تتحول إلى شاهد صامت على عقود من التحولات.

وتقاطع الشخصيات؛ نرى أناسًا مجهولين، بلا أسماء، يتكرر ظهورهم عبر مقاطع مختلفة، وكأنهم أشباح مدينة تتنفس الألم والفرح.

إلى جانب تقاطع الشعور؛ أحيانًا لا رابط بين مشاهد متتالية سوى الشعور: خفة مفاجئة، خوف، صدمة، حزن، احتفال، انفجار. إنها رحلة وجدانية أكثر منها رحلة معلوماتية.

هذا الأسلوب يجعل المشاهد يعيش الفيلم كاسترجاع ذاكرة، لا كمتابعة قصة. والذاكرة بطبيعتها غير منظمة، تقفز، تربط بين أشياء لا يجمعها منطق ظاهري، وتعود فجأة إلى لحظة لم نكن نتوقعها.

تعتمد المخرجة في بناء الفيلم على قطع سريع وحاد، يضرب الشاشة بقسوة ويقلب الحالة الشعورية للمشاهد في لحظة. وقد أشارت في اللقاء بعد العرض إلى أنّ هذه التقطيعات تشبه الحياة في لبنان، حيث يمكن أن تتحول الفرحة إلى فاجعة في لحظة واحدة، ويصبح ما هو ثابت هشًّا، وما هو آمن شديد التقلّب.

هذا التفسير ليس مجرد تبرير؛ بل يعكس رؤية سينمائية وفلسفية؛ فإيقاع الحياة اللبنانية نفسه يُستغل هنا كلغة للمونتاج.

فعندما ننتقل من مشهد موسيقي صاخب يحتفل فيه الناس بجنون، إلى انفجار يمزّق الشاشة، يشعر المشاهد أنه يعيش داخل ذبذبة المدينة نفسها، لا مجرد مشاهد خارجي. هذه التجربة الحسية جزء من نجاح الفيلم في نقل شعور لبنان، لا مجرد أخباره.

المونتاج هنا ليس عملية تجميع، بل عملية خلق: خلق توتر دائم، وخلق علاقة بين المشاهد وبلد لا يملك ترف الاستقرار.

والفيلم بلا أبطال بشريين، وبلا حكاية متكاملة. هذا ليس نقصًا، بل اختيارًا متعمّدًا. البطل هنا هو بيروت ـ المدينة التي تتوالى عليها الحروب، والأحلام، والموسيقى، والرقص، والدموع. في كل مشهد نرى بيروت مختلفة.

تظهر المدينة ككائن حيّ: تنزف، ترقص، تتزين، تنهار، تنهض، تختنق، تحتفل، وتتذكر. كأنّ الكاميرا تقول: البشر يمرّون… أمّا المدينة فتبقى حاملة لذكرياتهم جميعًا.

ماذا يعني سؤال «?Do You Love Me»

يحمل عنوان الفيلم دلالة عميقة. فهو ليس سؤالًا بين lovers، بل سؤال بين بلد وأهله، بين تاريخ مضطرب وشعب يريد أن ينساه ولا يستطيع. «هل تحبّني؟» تتحول إلى سؤال آخر:

هل نحبّ بلدًا لم يمنحنا الاستقرار؟ هل نحبّ ذاكرة موجوعة؟ هل نحبّ مدينة تُقصَف بعادية كطلوع شمس النهار؟

السؤال مفتوح، والمخرجة لا تمنح إجابة. إنها تضعنا في مواجهة مشاعرنا، لا في مواجهة موقف سياسي. والمفارقة أن السؤال الذي يبدو بسيطًا يختزل علاقة معقّدة بين الفرد وجماعة، بين المواطن ودولته، بين الماضي والحاضر.

ما الذي يجعل الفيلم تجربة فريدة؟

يتميز الفيلم عن أعمال أرشيفية كثيرة لأنه لا يسعى لإعادة تمثيل الماضي، بل لتفكيكه. لا يريد تقديم «قصة لبنان» كما يفعل الفيلم الوثائقي التقليدي، بل يريد تقديم تجربة لبنان.

ذلك لأنّ المخرجة تدرك أنّ الحكاية لا يمكن امتلاكها، ولا يمكن سردها من منظور واحد. ولذلك يصبح الشكل نفسه ـ شكل المونتاج، شكل اللقطات المتناثرة ـ جوهر الفيلم.

من أجمل ما يميز الفيلم تلك القدرة على الانتقال بين المزاجات دون إرهاق المشاهد. هناك صخب الموسيقى والرقص الشعبي والأغاني القديمة، يتبعها مباشرة مشاهد الدمار والرصاص والدموع. هذه الثنائية ليست مجرد إضافة درامية، بل هي جوهر الحياة اللبنانية نفسها.

لبنان بلد يعيش على حافة النقيضين: فرحة غامرة لا نعرف مصدرها، وحزن عميق لا نعرف نهايته. والفيلم يلتقط هذه المفارقة ببراعة، دون أن يشرحها أو يفسّرها.

اللغة السينمائية

الموسيقى هنا ليست خلفية، بل شريان الفيلم. الأغاني اللبنانية التي تنبعث من أرشيف الزمن تضيف لقطات من الفرح المؤقت. وحين تختفي، تجتاح المشاهد لحظات الفراغ والخوف.

أما الصورة ـ سواء كانت من فيلم روائي أو من شريط عائلي أو من تسجيل تلفزيوني ـ فهي جزء من الذات الجماعية. كل لقطة تحمل أثرًا، وكل تفصيل يحمل إشارة: يد تلوّح لعدسة الكاميرا، طفل يركض في شارع مزدحم، مبنى يُقصف، فتيات يرقصن… صور تسكن الذاكرة وتحوّل الفيلم إلى دفتر حياة.

خاتمة

«Do You Love Me» هو فيلم عن وطنٍ لم يعد يعرف شكله. فيلم عن ذاكرة متكسّرة، وعن جرح لم يندمل. لكنه في الوقت نفسه عمل سينمائي ذكي وشجاع، يرفض السقوط في الميلودراما السهلة، ويصنع من الأرشيف فسيفساء جديدة تعيد للبنان شيئًا من ذاته.

إنه عمل يذكّرنا بأن السينما ليست فقط رواية قصص، بل هي أيضًا إعادة ترتيب العالم. وفي فيلم لانا ضاهر نرى لبنان كما لم نره من قبل: بلدًا بلا سردية واحدة، لكنه مليء بالقصص التي تنتظر من يجمعها، وبلدًا يسأل أبناءه سؤالًا بسيطًا مخيفًا: هل تحبّونني؟

# فن # سينما

اكتشاف الأدب المصري القديم!
«غروب وشروق»… إحدى درر الكلاسيكيات المرممة في مهرجان القاهرة السينمائي
10 أفلام مرشحة للمشاهدة في مهرجان القاهرة السينمائي 2025

فن